top of page
  • AreebZuaiter

إرث السيدة (غي-بلاشيه) المفقود

Updated: Jul 15, 2020

كتب النص لمجلة توبلاين: عريب زعيتر*. تم نشر النص في ٦ تموز يوليو، ٢٠٢٠

نقله إلى العربية: أمل الدويب و عريب زعيتر.




لحظة الاكتشاف: السينما تبصر النور

داخل غرفة عرض للأفلام مظلمة في مكتبة الجامعة الأمريكية في العاصمة واشنطن، وبينما كنت أتَنَقَّلُ بين مقاطع أفلامٍ من حقبة الأفلام الصامتة استعدادًا لمحاضرتي القادمة من مادة تاريخ السينما الوثائقية والتي تتناول بداية صناعة السينما. كان عليَّ الاطلاع بشكل موسع على أفلام صُنِعَتْ بُعَيْدَ ظهور (السينماتوغراف).

يحرجني الاعتراف، بأنني في كثير من الأحيان كنت أشعر بالضجر من متابعة مشهد صامت لا يتجاوز العشر إلى اثنتي عشر دقيقة، إلى أن وجدتُ قرصًا مُدمجًا مُكوَّنًا من جزئين بعنوان كنوز (غومون).

شمل القرص أفلاماً رائعةً من الناحية الفنيَّة، فتقنيات (الماسكينغ) أو الإخفاء معقدة، والمؤثرات البصرية استثنائية. لفتت هذه الأفلام انتباهي وكسرت النمطية والرتابة التي كنت قد شعرت بها، بالأخص كونها احتوت على صوت متزامن مع الصورة. فلطالما ترسَّخ في مخيلتي أنَّ مرحلة ما قبل الأفلام الناطقة لم تكن مهيأة لتشتمل على تقنية الصوت.

ناهيك عن حس التشويق والفكاهة الذي تمتعت به تلك الأفلام مما أزال عني الملل وتركني بحالة من المتعة.

مر بعض الوقت قبل أن أستوعب أنَّ الأفلام تلك كانت تحمل التوقيع نفسه. و أن التوقيع ذاك كان لامرأة؛ (أليس غي)..

أخذني الفضول للبحث بشكل أعمق، وأخذتني (أليس) إلى عجائبها الخاصة من كنوز السينما.

شاهدةً على، ومساهمةً في ولادة السينما

في مطلع القرن العشرين "أي جديد تحت الشمس كان لك أن تعثر عليه في باريس" على حد تعبير البرُفيسور (فانيسا شوارتز)، من جامعة جنوبي كاليفورنيا. مدينة الأضواء، كانت حيث الابتكار يلتقي بالاختراع، حيث التقنيات الجديدة وفرص العمل. ما كان له أن يعزز التعاون والمنافسة بين المهندسين والعلماء. إلّا أنَّ عرض الأفلام كان لا يزال عقبةً يتسابق لحلها المخترعون.

في أحد أيام شهر آذار للعام ألفٍ وثمانمائةٍ وأربعةٍ وتسعين، قام الأخوين أوغست و (لويس لوميير) بالتوقف عند دار غومون الفرنسية في باريس، كانا يحملان دعوةً تقتصر على الأصدقاء والزملاء. (ليو غومون)؛ مؤسس الدار وأحد المهندسين المنافسين، كان من المدعوين المرحب بهم.

كان لدى السيد غومون سكرتيرة تبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا تعمل معه في نفس المكتب. والتي قام الأخوان لوميير بدعوتها. في ذلك الوقت كانت السكرتارية عملًا جيدًا، يعمل بها أبناء الطبقة المتوسطة العليا. تلك السكرتيرة الشابة كانت (أليس غاي).

وهكذا، وقبل الآخرين بكثير، أتيح ل(أليس) أن تكون شاهدة على ولادة السينما في جمعية دعم الصناعات الوطنية بباريس.

قام الأخوة (لوميير) بنصب شاشة وتدوير آلةٍ صغيرةٍ أسْمَوْها بالسينماتوغراف

كان العرض حصريًا. حيث تمّ الكشف عن تلك الآلة للشابة (أليس) قبل تسعة أشهر من ظهورها التاريخي على الملأ. وقتئذٍ، ذلك العرض الشهير ل (عمّال يتركون مصنع لوميير) كان نقطة مفصلية في نقل الصورة الثابتة إلى صورة متحركة.

مدخل إلى الرواية السينمائية

نشأت (أليس غي)، ابنة بائع الكتب محاطةً بالكتب. غدا فن رواية القصص يسري في دمها. من خلف مكتبها، كانت تراقب الناس منكبين على تصوير أيّ شيء تلتقطه عدساتهم؛ لم تعد تحتمل مشاهد الشوارع والقطارات والسيارات. كانت متأكدة أنّ ثمة شيئا أفضل يمكن القيام به. قامت بالاقتراح على (ليو غومون) أن يتيح لها فرصة القيام بتصوير تصوير بعض المشاهد. بفضل الشابة (أليس)، بدأت السينما بأخذ شكلها الروائي. ف(أليس)، وفي العام ألف وثمانمائة وستة وتسعين، قدمت للسينما أول فيلم يخضع لنص مكتوب؛ (La Fee aux Choux) أو (جنية الملفوف)

لعِبَتْ (غي) دور الزوج، كما وصنعت وحركت الدُّمى في ذلك الفيلم. تتأمل (غي) تجربتها، فتتلألأ عيناها بالحنين إلى الماضي، وهي تقول،" صنعنا الملفوف من الورق المقوى واستخدمنا الدُّمى الخشبية للأطفال عدا واحدةً.... كانت أمها متوترة من فكرة التصوير."

في وقت لم يوجد فيه عنوان ولا حتى سوق لصناعة الأفلام، كان ذلك الفيلم هو أول فيلم يحمل اسم الكاتب والمخرج والمنتج في آن معا. فقبل سبعين عامًا من الموجة الفرنسية الجديدة؛ حتى قبل دخول المصطلح إلى مفردات صناعة السينما بوقت طويل، كان لفرنسا سينما مُستقلة، سينما الرائدة (أليس).

ومع بيع ثمانين نسخة من الفيلم، تمت ترقية (أليس) لتصبح رئيسة الإنتاج في دار (غومون). صنعت (أليس) أسلوبًا مبتكرا للدار بحيث قامت بالتصوير في مواقع حقيقية. كانت مسؤولة عن كل مرحلة من مراحل إنتاج الفيلم؛ ابتداءً بكتابة النص، وانتهاءً بتصميم الأزياء. كانت تشرف على عمل جميع المخرجين لدى الشركة، قامت بتدريب العديد من رائدي السينما البارزين؛ جميعهم من الرجال، من ضمنهم (لويس فويياد) و(إتيان آرنو). هي بحد ذاتها كانت مُخرِجةً وكاتبةَ نصٍ. قبل ثلاثين عامًا من وصول هوليوود إلى تقنية الصوت، كانت الشابة (أليس غي) تجرب الصوت وتزامنه مع الصورة؛ منتجةً بذلك إصدارات سينمائية مبكرة من الأفلام الناطقة.

(أليس) تدفع الثمن باهضًا لكونها امرأة

وكأن ارتداء مشّد مُبطَّن مع تنورة تلامس الأرض أثناء إخراج الأفلام لم يكن عبأً كافيًا لصانعة أفلام في بداية القرن العشرين، فإن كونها امرأة كان ليعرّض (أليس غي) لأكثر التحديات جديّةً. فتلك التحديات ستتوالى إلى أن تحول دون حصولها على مكانها المستحق في كتب التاريخ. لعب جنس(أليس) دورًا في تفاصيل حياتها المهنية كصانعة أفلام. المثال الأقوى الذي يوضح القمع المبني على كونها أنثى، لك أن تلمسه في أحد أشهر أفلام (أليس غي) (Vie et Passion du Christ)

أو (حياة وشغف المسيح) (١٩٠٦)

ذات صباح من عام ألف وتسعمائة وستة، وصلت (أليس) إلى موقع عملها لتجد أنّ مسؤول ورشة العمل في دار (غومون) قد قام بإتلاف ديكورات كاملة للمشاهد الخاصة بفيلمها ورماها للنيران لتلتهمها. احتوى الفيلم على خمسة وعشرين ديكور مختلف بالإضافة إلى مئات من الكومبارس، والأزياء والحيوانات الحية، (حياة وشغف المسيح) كان فيلمها، إن لم يكن فيلم زمانها، الأكبر والأعلى تكلفةً على الإطلاق. قدمت فيه فهمًا ناضجًا عن العمق السينمائي للمكان وذوقًا راقيًا قامت بطرحه من خلال الإضاءة والتصميم الفني للعمل. عند وضعه في السياق الزمني الخاص به، يعْتبرَ هذا الفيلم ذو الأربعة والأربعين دقيقة أحد أطول الأفلام الروائية الطويلة القديمة.

لم تحصل (أليس) على تقدير لعملها ومساهمتها للارتقاء بالفن السابع من خلال هذا الفيلم. فحتى وقت قريب، نُسِب الفيلم إلى مساعدها (فيكتورِن هيبولِت جاس).

زواج (أليس) يعد أحد العوامل الأخرى

التي كان لها أن تؤدي إلى زوال عملها السينمائي. فعلى الرغم من تقدمها على زمنها في العديد من النواحي، إلّا أنّ (أليس) لم تستطع التخلص من نشأتها الفيكتورية. فعندما تزوجت من (هاربرت لاشيه)، كان عليها الانتقال من فرنسا إلى الولايات المتحدة. عادت (أليس) بذلك إلى نقطة الصفر، حيث كان عليها العمل من أجل بناء مهنة جديدة وهوية جديدة. قادها شغفها لإنشاء شركة إنتاج خاصة بها، (سولاكس للأفلام) في "هوليوود العقد الثاني من القرن العشرين"؛ فورتلي، نيو جيرسي. إذ "كانت هوليوود في ذلك الحين بلدة صغيرة تضع لافتات على الأبواب تمنع دخول الكلاب والممثلين!"، هذا ما أكدته السيدة (بلاشيه). من خلال شركتها، واصلت (أليس) إخراج العديد من أفلامها الناجحة. فأصبحت (سولاكس) أكبر استوديو لإنتاج الأفلام في الولايات المتحدة.

قام السيد (بلاشيه) مرارًا وتكرارًا بإعطاء الصدارة لاسمه في جميع إنتاجاته وتعاملاته. وسرعان ما أجبرها على تصفية (سولاكس) لينشئ شركته الخاصة (بلاشيه للأفلام)؛ حيث قام بإنتاج أفلام تحمل اسمه وحده. كانت الأعمال المُنتَجَة في الشركة الجديدة رديئة الجودة بشكل ملحوظ مماترك الزوجين فريسة سهلة للمنافسين والمشاكل المالية. ومع العديد من التضحيات، انتهى الأمر بإعاقة أعمالها من الانتشار.

ترك (هاربرت) عائلته للعمل في هوليوود والشروع بعلاقات مع نجمات أخريات هناك. وأخيرًا تم الطلاق في عائلة (بلاشيه) في عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين. (أليس) في ذلك الوقت أصبحت أم عزباء تعول أطفالها وحدها، فعادت إلى فرنسا بصحبة أطفالها، وانقطعت عن العمل في مجال السينما إلى الأبد.

اسم منسي وراء العديد من الإنجازات الرائدة

تعد قضية مدام (غي -بلاشيه) دليلًا على مدى قدرة التاريخ على التمييز. فعلى الرغم من استحقاقها لأن يشار إليها كأُمٍّ مؤسسة لهذه الحرفة، إلّا أن اسمها لم يتسن له الظهور على صفحات التاريخ حتى بداية القرن الواحد والعشرين. لقد تم تجاهلها من قبل المؤرخين السينمائيين تمامًا، وإن لم يكن مُتَعمَّدا.

يشار إلى (ميليس) غالبًا ب "ساحر السينما". وتنسب استمرارية المشاهد والمونتاج الموازي إلى (إدوِن بورتر). وعادةً ما تضاف اللقطة السينمائية القريبة إلى سلسلة إنجازات (ديفيد وارك غريفيث). ولكن (أليس) ، وبالرغم من إسقاط اسمها من كتب التاريخ مرارًا وتكرارًا، إلا انّها فعلًا أعطت السينما ما أصبح معيارًا للكثيرمن الأساليب السينمائية. اللقطة السينمائية القريبة، التلاشي التدريجي عند الانتقال من صورة إلى أخرى، إحلال مشهد على الشاشة محل آخر، العناوين، الصور المركبة، التحريك السريع والبطيء، وتحريك الصور، كلها ابتكارات بادرت (أليس) بإطلاقها.

حتى عندما انتقلت (أليس) للعمل في الولايات المتحدة، أخذها نضجها لتقديم العديد من الموضوعات المثيرة للجدل آنذاك. كانت أول من أخرج فيلمًا جميع ممثليه من الأمريكيين الأفارقة ويطرح قصة مجتمع أسود من الطبقة المتوسطة دون وجود تمييز أو أفكارمسبقة أو نمطية. كما تطرقت إلى موضوعات خاصة بالهوية الجنسية من خلال تبادل الأزياء (فالنساء يرتدين ملابس الرجال وبالعكس).

لدى (أليس) رصيد إخراج ما يزيد على سبعمائة فيلمٍ. جاء الاعتراف باسمها قليلًا جدًا ومتأخرًا جدًا. توفيت عن عمرٍ يناهزُ الأربعةَ وتسعين عامًا. إلا أنها لم تعد قادرة على إخراج الأفلام لأكثر من ثمانية وأربعين عامًا قبل وفاتها.



*عريب زعيتر، صانعة أفلام مستقلة تدرس تاريخ السينما الوثائقية، الفنون البصرية و الإنتاج السينمائي في كلية الاتصالات لكل من الجامعة الأمريكية، و جامعة هوارد بواشنطن 


112 views0 comments
bottom of page